مفهوم التفسير بالمأثور: دراسة موسعة في المنهج والمصادر والمكانة العلمية

المقدمة

التفسير بالمأثور هو أحد الركائز الأساسية في علوم التفسير القرآني، ويُعدُّ من أقدم مناهج تفسير كتاب الله عزّ وجل، إذ نشأ مع بزوغ نور الإسلام وتلقى اهتمامًا بالغًا من الصحابة والتابعين، الذين اعتمدوا على ما ورد عن النبي محمد ﷺ في شرح آيات القرآن الكريم. هذا المنهج يُعنى بتفسير القرآن بالقرآن، أو تفسيره بالسنة النبوية، أو بأقوال الصحابة والتابعين، ويقوم على مبدأ أن خير من يفسر كلام الله هو من نزل عليهم هذا الوحي وفهموه في سياقه التاريخي واللغوي والمعرفي.

في هذا المقال الموسع، سيتم تناول التفسير بالمأثور من جميع زواياه: تعريفه، نشأته، مصادره، خصائصه، مزاياه، نقده، وأبرز أعلامه، كما سيتم التفصيل في مكانته مقارنةً بباقي المناهج التفسيرية كالتفسير بالرأي، إلى جانب استعراض لأهم الكتب التي اعتمدت هذا المنهج.

أولًا: تعريف التفسير بالمأثور

التفسير بالمأثور هو التفسير القائم على ما أُثِر عن النبي ﷺ أو عن الصحابة أو التابعين في تفسير آيات القرآن الكريم. يُطلق عليه أيضًا “التفسير النقلي” لأنه يعتمد على النقل لا على الرأي الشخصي. وقد عبّر بعض العلماء عن هذا النوع من التفسير بأنه “تفسير القرآن بما ورد فيه من تفسير على لسان رسول الله ﷺ أو من فهم الصحابة أو التابعين”.

ومن خلال هذا التعريف، يمكن تحديد أن التفسير بالمأثور يقوم على ثلاثة مستويات من الأثر:

1. تفسير القرآن بالقرآن: أي أن يُفسر جزء من آيات القرآن الكريم بجزء آخر منه، وهو أعلى درجات التفسير بالمأثور وأكثرها موثوقية.

2. تفسير القرآن بالسنة النبوية: من خلال الأحاديث الصحيحة التي تشرح آيات محددة.

3. تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين: وهم أقرب الناس إلى النبي ﷺ وفهمهم للنص القرآني يُعد مرجعيًا.

ثانيًا: نشأة التفسير بالمأثور وتطوره

ظهر التفسير بالمأثور منذ البدايات الأولى لنزول الوحي، حيث كان الصحابة يسألون النبي ﷺ عن معاني الآيات، وكان يجيبهم ويشرح لهم ما استشكل عليهم. واستمر هذا النهج بعد وفاته ﷺ، حيث صار الصحابة يفسرون القرآن بما تعلموه منه، ثم جاء التابعون ونقلوا عن الصحابة، وهكذا استمر التداول.

وفي القرن الثاني الهجري، بدأ تدوين هذا النوع من التفسير ضمن المصنفات الحديثية، ثم ظهرت المصنفات المتخصصة في التفسير، ومنها ما خصّ التفسير بالمأثور، كـ “تفسير ابن جرير الطبري”، الذي يُعد من أعظم وأشهر كتب التفسير بالمأثور في التراث الإسلامي.

ثالثًا: مصادر التفسير بالمأثور

يمكن تقسيم مصادر التفسير بالمأثور إلى أربعة أقسام رئيسية:

رابعًا: خصائص التفسير بالمأثور

يمتاز التفسير بالمأثور بعدة خصائص تجعله ركيزة موثوقة في فهم القرآن الكريم:

• الوثوقية العالية: لأنه يعتمد على نقل المعنى من مصادر أصيلة ومباشرة.

• السلامة من الهوى: فلا مكان فيه للرأي المجرد أو التأويل البعيد.

• الارتباط بالسياق النبوي والتاريخي: ما يجعل التفسير أكثر دقة في التناول والمعنى.

• التكامل بين المصادر: فيجمع بين النصوص القرآنية والحديثية وأقوال السلف.

• الوضوح في المنهجية: حيث يتم استعراض الأثر، ثم سنده، ثم الحكم عليه من حيث الصحة والضعف.

خامسًا: مزايا التفسير بالمأثور

1. يحافظ على وحدة المعنى القرآني: من خلال تفسير بعض الآيات ببعضها.

2. يوفر السياق الزمني والاجتماعي للآيات: مما يساعد على فهم أسباب النزول وظروف التشريع.

3. مرجعية موثوقة للمفسرين المتأخرين: يعتبر الأساس الذي انطلقت منه مناهج التفسير الأخرى.

4. مناسب لغير المتخصصين: لأنه يوضح المعنى بعيدًا عن التعقيد الفلسفي أو الاصطلاحات الدقيقة.

5. يشكل جزءًا من السنة النبوية: عندما يعتمد على الأحاديث في التفسير.

سادسًا: التفسير بالمأثور مقابل التفسير بالرأي

يعتمد التفسير بالرأي على الاجتهاد الشخصي المبني على اللغة والمعقول والعلم بمقاصد الشريعة، لكنه يختلف عن التفسير بالمأثور من حيث المنهج. وفي الجدول التالي توضيح للفروق الجوهرية:

سابعًا: نقد التفسير بالمأثور

رغم مزاياه، واجه التفسير بالمأثور بعض الانتقادات، منها:

• وجود روايات ضعيفة أو موضوعة: خاصة في التفاسير المتأخرة التي لم تعتمد على النقد الحديثي الصارم.

• عدم كفاية الأثر في تفسير كل الآيات: بعض الآيات لم يرد فيها تفسير عن النبي أو الصحابة.

• التناقض الظاهري بين بعض الروايات: مما يجعل عملية الترجيح بين الأقوال ضرورية.

• تكرار الأقوال دون تدقيق: خاصة في تفاسير تنقل الروايات دون تمحيص.

ولذلك، فإن استخدام التفسير بالمأثور يتطلب الجمع بين الروايات، وتحقيق الأسانيد، وفهم السياق العام للآيات.

ثامنًا: أبرز أعلام التفسير بالمأثور

من أهم الأعلام الذين برزوا في هذا المجال:

• عبد الله بن عباس: حبر الأمة وترجمان القرآن، نقل عنه كثير من التفسير.

• عبد الله بن مسعود: من كبار الصحابة الذين فسروا آيات القرآن وشاركوا في تعليم التابعين.

• مجاهد بن جبر: تلميذ ابن عباس، عُرف بدقته في التفسير وقال عنه الشافعي: “إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به”.

• الطبري: صاحب كتاب “جامع البيان عن تأويل آي القرآن”، يُعد من أعظم مفسري الأثر.

تاسعًا: أهم كتب التفسير بالمأثور

فيما يلي أهم المصنفات التي تمثل مدرسة التفسير بالمأثور:

1. تفسير الطبري (جامع البيان): مرجع أساسي في التفسير بالمأثور، يجمع أقوال الصحابة والتابعين بالأسانيد.

2. تفسير ابن كثير: يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة وأقوال السلف، ويهتم بصحة الأسانيد.

3. تفسير عبد الرزاق الصنعاني: جمع فيه الأحاديث والتفاسير المأثورة من مشايخه.

4. تفسير سعيد بن منصور: يُعد من المصادر الهامة في الرواية التفسيرية.

5. الدر المنثور للسيوطي: جمع فيه الروايات الحديثية المتعلقة بالآيات.

عاشرًا: مكانة التفسير بالمأثور في الدراسات القرآنية الحديثة

التفسير بالمأثور لا يزال يحظى باهتمام كبير في أوساط الدراسات القرآنية، خاصة في كليات الشريعة والعلوم الإسلامية. ويُعتبر مصدرًا أوليًا لكل باحث في علم التفسير، ولا يمكن لأي دراسة تفسيرية أن تتجاهل هذا المنهج أو تهمله. وقد أعادت الجامعات والمؤسسات البحثية دراسة هذا التراث، وإخراجه محققًا، وتمحيص الأسانيد، وتنقيحه من الروايات الضعيفة أو الإسرائيليات.

في إطار علمي حديث، يُستفاد من التفسير بالمأثور أيضًا في:

• بناء المناهج الدراسية للتفسير.

• ضبط المفاهيم القرآنية.

• استخراج المقاصد العامة للتشريع.

• تحليل الخطاب القرآني في ضوء تاريخ التنزيل.

الخاتمة

التفسير بالمأثور يمثل صمام الأمان لفهم كتاب الله على وجهه الصحيح، بعيدًا عن التأويلات البعيدة والاجتهادات غير المنضبطة. هو حجر الأساس لكل من أراد أن يخوض غمار تفسير القرآن الكريم. وقد تميز هذا المنهج بثباته، ومصداقيته، واستناده إلى أوثق مصادر التفسير. لذا تظل العودة إليه ضرورة في كل عصر لفهم النص القرآني كما نزل، وللحفاظ على هوية الأمة النصية والمعرفية.

المراجع

1. الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان عن تأويل آي القرآن. دار الفكر.

2. ابن كثير، إسماعيل بن عمر. تفسير القرآن العظيم. دار طيبة.